فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} يعني: ألم تخبر بالقرآن.
ويقال: ألم تر، يعني: ألم يبلغك الخبر.
ويقال: اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الإخبار، يعني: اعلم واعتبر بصنيع ربك {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} يعني: كيف عذب ربك {بأصحاب الفيل} وكان بدء أصحاب الفيل، ما ذكرناه في سورة البروج، أن زرعة قتل المسلمين بالنار، فهرب رجل منهم إلى ملك الحبشة، وأخبره بذلك.
فبعق ملك الحبشة جيشًا إلى أرض اليمن، فأمر عليهم أرياطًا، ومعه في جنده أبرهة الأشرم، فركب البحر بمن معه، حتى أتوا ساحلًا، مما يلي أرض اليمن، فدخلوها ومع أرياط سبعون ألفًا من الحبشة، وهزم جنود زرعة، وألقى زرعة نفسه في الماء، فهلك وأقام أرياط باليمن سنين في سلطانه.
ذلك ثم نازعه في أمر الحبشة أبرهة، وكان من أصحابه، ممن وجّهه معه النجاشي إلى اليمن وخالفه أبرهة وتفرق الجند في أرض اليمن، وصار إلى كل واحد منهما طائفة منهم.
ثم خرجوا للقتال، فلما تقارب الناس، ودنا بعضهم من بعض، أرسل أبرهة إلى أرياط، أن لا تصنع شيئًا، بأن تلقي الحبشة بعضها في بعض، حتى تفنيها.
فأبرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إلى جنده، فأرسل إليه أرياط أن قد أنصفت فاخرج، فخرج إليه أبرهة، وكان رجلًا قصيرًا، وخرج إليه أرياط وكان رجلًا طويلًا عظيمًا، في يده حربة، وخلف أبرهة عبدًا يقال له عنودة وروي عن بعضهم عيودة بالياء، فلما دنا أحدهما من صاحبه، رفع أرياط الحربة، فضرب بها على رأس أبرهة يريد يافوخة، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة، فخدشت حاجبيه وعينه وأنفه وشفتيه.
فلذلك سمي أبرهة الأشرم، وحمل عيودة على أرياط من خلف أبرهة، فقتل أرياط، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن.
وكل ما صنع أبرهة من غير علم النجاشي ملك الحبشة، فلما بلغه ذلك، غضب غضبًا شديدًا.
وقال: عدا على أميري، فقتله بغير أمري.
ثم حلف أن لا يدع أبرهة، حتى يطأ بلاده، ويجز ناصيته.
فلما بلغ ذلك أبرهة، حلق رأسه، وملأ جرابًا من تراب أرض اليمن.
ثم بعث إلى النجاشي، وكتب إليه، أيها الملك: إنما كان أرياط عبدُك، وأنا عبدك، واختلفنا في أمرك، وكل طاعة لك.
إلا أني قد كنت أقوى على أمر الجيش منه، وأضبط له، وقد حلقت رأسي حين بلغني قسم الملك، وبعثت إليه بجراب من تراب أرضي، ليضعه تحت قدميه، فيبر قسمه.
فلما وصل كتاب أبرهة إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه، أن أثبت بأرض اليمن، حتى يأتيك أمري.
وقال أبرهة لعتودة حين قتل أرياط: حكمك يعني: أحكم على بما شئت، فقال: حكمي أن لا تدخل عروس من نساء أهل اليمن على زوجها، حتى أصيبها قبله.
قال: ذلك لك.
فأقام أبرهة باليمن، وغلامه عنودة يصنع باليمن ما كان أعطاه في حكمه.
ثم عدل عليه رجل من حمير، أو من خَثْعم فقلته، فلما بلغ أبرهة قتله، وكان أبرهة رجلًا حليمًا، ودعا في دينه من النصرانية.
فقال: قد آن لكم يا أهل اليمن، أن يكون منكم رجل حازم، يأنف مما يأنف منه الرجال، إني والله لو علمت حين حكمته، أنه يسأل من الذي سأل ما حكمته، وأيم الله لا يؤخذ منكم فيه عقل، ولا قود.
ثم إن أبرهة بنى بصنعاء كنيسة، لم يُر مثلها في زمانه في أرض الروم، ولا في أرض الشام.
ثم كتب إلى النجاشي الأكبر، ملك الحبشة، أني قد بنيت لك كنيسة، لم يكن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب، فلما علمت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي، خرج رجل من بني كنانة من الحمس، حتى قدم اليمن، فدخل الكنيسة، فنظر فيها، ثم خرى فيها فدخلها أبرهة، فوجد تلك العذرة فيها فقال: من اجترأ على بهذا، فقال له أصحابه: أيها الملك، رجل من أهل ذلك البيت الذي يحجه العرب. فقال: أعلى اجْتَرأ بهذا، ثم قال بالنصرانية: لأهْدِمَنَّ ذلك البيت ولأُخَرِّبنه، حتى لا يحجه حاج أبدًا، فدعا بالفيل وأذن قومه بالخروج.
وروي في رواية أُخرى أن فئة من قريش، خرجوا إلى أرض النجاشي، فأوقدوا نارًا، فلما رجعوا، تركوا النار في يوم ريح عاصف، حتى وقعت النار في الكنيسة، فأحرقتها.
فعزم أبرهة، وهو خليفة النجاشي، أن يخرج إلى مكة فيهدم الكعبة، وينقل أحجارها إلى اليمن، فيبني هناك بيتًا ليحج الناس إليه.
وروي في رواية أُخرى، أن رجلًا من أهل مكة، خرج إلى اليمن، فأخذ جزعة من القصب ذات ليلة، وأضرم النار في الكنيسة فأحرقها ثم هرب.
فبناها أبرهة مرة أخرى، فحلف بعيسى ابن مريم بأن يهدم الكعبة، لكي يتحول الحج إلى كنيسته، فتجهز فخرج معه حتى إذا كان في بعض طريقه، بعث رجلًا من بني سليم، ليدعو الناس في حج بيته الذي بناه، فتلقاه رجل من اليمن بني كنانة، فقتله.
فازداد أبرهة بذلك غضبًا، وحث على المسير والانطلاق، حتى إذا كان بأرض جعم فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم، يقال له ذو يفن.
فدعا القوم، وأحبابه من سائر العرب، إلى حرب أبرهة، وصده عن بيت الله، فقاتله فهرب ذو يفن وأصحابه، وأخذوا ذا يفن، وأتى به أسيرًا.
فلما أراد قتله قال: أيها الملك، لا تقتلني، فإنه عسى أن أكون معك خير لك من قتلي، فتركه وحبسه عنده في وثاقه.
ثم مضى على وجهه ذلك، حتى إذا كان بأرض خشعم، عرض له فقيل ابن حبيب الخشعي، فقاتله فهزمه، وأخذ أسيرًا.
فلما أتي به، وهم بقتله فقال: أيها الملك لا تقتلني، فإني دليلك بأرض العرب، فتركه وخلى سبيله، وخرج به معه يدله على أرض العرب.
حتى إذا مر بالطائف فخرج إليه مسعود بن مغيث، التقى في رجال من ثقيف فقالوا: أيها الملك إنما نحن عبيدك، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا الذي تريد، يعنون اللات والعزى، وليست بالتي يحج إليه العرب، وإنما ذلك بيت قريش الذي بمكة، فنحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبارغال، فخرج يهديهم الطريق، حتى أنزلهم بالمغمس وهي على ستة أميال من مكة، فمات أبو رغال هناك، فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي ترجمه الناس بالمغمس.
ثم إن قريشًا لما علموا، أن لا طاقة لهم بالقتال مع هؤلاء القوم، لم يبق بمكة أحد، إلا خرج إلى الشعاب والجبال، ولم يبق أحد إلا عبد المطلب على سقايته وشيبه، أقام على حجابة البيت، فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي البيت ويقول: اللهم إن المرء يمنع رحله، فامنع رحالك لا يغلبوا بصليبهم، فأمر ما بدا لك.
ثم إن أبرهة بعث رجلًا من الحبشة على جمل له، حتى انتهى إلى مكة، وساق إلى أبرهة أموال قريش وغيرها.
فأصاب مائتي بعير لعبد المطلب، وهو يومئذٍ كبير قريش وسيدها.
ثم بعثت أبرهة رجلًا من أهل حمير إلى مكة، وقال أرسل إلى سيد هذا البيت وشريفهم.
ثم قال له: إن الملك يقول لك، إني لم آت لأخرجكم، وإنما جئت لأهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا إلى دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم.
فلما دخل الرسول مكة، جاء إلى عبد المطلب، وأدى إليه الرسالة، فقال له عبد المطلب: ما نريد حربه، وما لنا بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن ذي يفن، وكان صديقًا له، فجاءه وهو في مجلسه فقال له: هل عندك من عناء بما نزل بنا، فقال له ذو يفن: ما عناء رجل أسير بيد ملك ينتظر بأن يقتله، عدوًا أو مشيًا ألا إن صاحب الفيل صديق لي، فأرسل إليه فأوصيه لك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه أنت بما بدا لك.
فقال حسبي ففعل ذلك، فلما دخل عبد المطلب على الملك وكلمه، فأعجبه كلامه.
ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك، قال عبد المطلب: حاجتي إليك، أن ترد إلى مائتي بعير لي، فلما قال ذلك، قال له أبرهة: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم إني رجوت.
يعني: كرهت فيك حيث كلمتني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه.
لا تكلمني فيه.
قال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًا سيمنعه.
فقال: ما كان يمنع مني، قال: أنت وذلك فرد عليه الإبل، فانصرف عبد المطلب إلى قريش، وأخبرهم الخبر، وأمر بالخروج لمن بقي من أهل مكة إلى الجبال، وفي بطون الشعاب.
ثم إن عبد المطلب، أخذ بحلقتي باب الكعبة، وقال: اللهم إن المرء يمنع رحله، وذكر كلمات في ذلك.
ثم أرسل حلقتي الباب، وانطلق ومن معه إلى الجبال، ينتظرون ما يصنع أبرهة بمكة.
فلما أصبح أبرهة، تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله وجيشه، وكان اسم الفيل محمودًا، وكنيته أبو العباس.
وكتبه أبو البكشوم، فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي، حتى جاء إلى جنب الفيل. ثم أخذ بأذنه فقال أبرك محمودًا، وارجع راشدًا من حيث جئت، فإنك والله في بلد الله الحرام.
ثم أرسل أذنه فاضطجع، فضربه ليقوم فأبى، فضربوه ليقوم فأبى وضربوا بالطبرزين فوجهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة، فبرك وأرسل الله تعالى عليهم طيرًا من البحر، أمثال الخطاطيف.
مع كل طير منها ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمصة والعدسة، لا تصيب أحدا منهم إلا هلك.
فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاؤوا منه، ويتساءلون عن نفل بن حبيب، ليدلهم على الطريق، فخرج نفيل يشتد، حتى صعد الجبل، فخرجوا معه يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل، فأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا معه فيسقط من جسده أنملة أنملة، كلما سقطت منه أنملة، خرجت منه مدة قيح ودم، حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم مات، فملك ابنه يكثوم بن أبرهة ملك اليمن.
وروي في الخبر، أنه أول ما وقعت الحصبة، والجدري بأرض العرب ذلك العام، وقال بعضهم: كان أمر أصحاب الفيل، قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم، بثلاث وعشرين سنة.
وقال بعضهم: كان ذلك في عام مولده عليه السلام.
وروي عن قبس بن مخرمة أنه قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل.
فنزل قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل} يعني: كيف عاقب ربك أصحاب الفيل، بالحجارة، حين أرادوا هدم الكعبة.
قال تعالى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ} يعني: في خسارة.
ويقال: معناه ألم يجعل صنيعهم في أباطيل {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} يعني: متتابعًا بعضها على أثر بعض، أرسل عليهم الله طيورًا بيضًا صغارًا.
وقال عبيد بن عمير: أرسل عليهم طيرًا بلقا من البحر، كأنها الخطاطيف.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: طيرًا سودًا، جاءت من قبل البحر فوجًا فوجًا.
ثم قال: {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ} قال سعيد بن جبير، الحجارة أمثال الحمصة.
وروي عن ابن عباس قال: رأيت عند أم هانئ من تلك الحجارة، مثل بعر الغنم، مخططة بحمرة.
وروى إسرائيل، عن جابر بن أسباط قال: طيرًا كأنها رجال الهند، جاءت من قبل البحر، تحمل الحجارة في مناقيرها وأظافيرها، أكبرها كمبارك الإبل، وأصغرها كرؤوس الإنسان {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ} يعني: من طين خلط بالحجارة، ويقال: طين مطبوخ كما يطبخ الآجُرْ.
وذكر مقاتل، عن عكرمة قال: هي طير جاءت من قبل البحر، لها رؤوس كرؤوس السباع، لم تر قبل يومئذ ولا بعده، فجعلت ترميهم بالحجارة، فتجدر جلودهم.
وكان أول يوم رأى فيه الجدري.
ويقال: مكتوب في كل حجر اسم الرجل، واسم أبيه، ولا يصيب الرجل شيء، إلا نفذه فيها وقع على رأس رجل، إلا خرج من دبره، وما وقعت على جانبه، إلا خرجت من الجانب الآخر.
وقال وهب بن منبه {حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} قال بالفارسية سنك وكل يعني: حجارة وطين.
وروى موسى بن بشار عن عكرمة {حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} قال: سنك وكل.
ثم قال عز وجل: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} يعني: كزرع بالٍ، فأخبر الله تعالى أنه سلط على الجبابرة أضعف خلقه، كما سلط على النمرود بعوضة، فأكلت من دماغه أربعين يومًا، فمات من ذلك. والله أعلم بالصواب. اهـ.

.قال الثعلبي:

سورة الفيل:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل}.
القصة وباللّه التوفيق.
قال محمد بن إسحاق: كان من قصة أصحاب الفيل فيما ذكر بعض أهل العلم عن سعيد ابن جُبير وعكرمة عن ابن عباس، وعمّن لقي من علماء أهل اليمن وغيرهم أن ملكًا من ملوك حمير يقال له زرعة ذو نواس كان قد تهوّد واستجمعت معه حمير على ذلك، إلاّ ما كان من أهل نجران، فإنّهم كانوا على النصرانيّة على أصل حكم الإنجيل، ولهم رأس يقال له عبد اللّه بن التأمر، فدعاهم إلى اليهوديّة فأبوا فخيّرهم فاختاروا القتل فخدّ له أخدودًا وصنّف لهم أصناف القتل.
فمنهم من قتل صبرًا، ومنهم من خدّ لهم فألقاه في النار إلاّ رجلا من أهل سبأ يقال له دوس بن ثعلبان، فذهب على فرس له فركض حتى أعجزهم في الرمل، فأتى قيصر فذكر له ما بلغ منهم واستنصره فقال: بعدت بلادك عنّا ولكنّي سأكتب لك إلى مَلِك الحبشة، فإنّه على ديننا فينصرك، فكتب إلى النجاشي يأمره بنصره.
فلمّا قدم على النجاشي بعث معه رجلا من أهل الحبشة يقال له: ارياط، فلمّا بعثه قال: إنْ دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها، واضرب ثلث بلادها وابعث إلى بثلث سباياها، فلمّا دخلها ناوش شيئًا من قتال فتفرّقوا عن ذي نواس وخرج به فرسه، فاستعرض به البحر فضربه فهلكا جميعًا فكان آخر العهد، ودخلها أرياط فعمل بما أمر به النجاشي، فقال ذو حدر الحميري فيما أصاب أهل اليمن وترابهم:
وعيني لا أبًا لك لم تُطيقي ** نجاك اللّه قد أنزفت ريقي

لدى عزف القيان إذ انتشينا ** وإذ نسقى من الخمر الرحيق

وشرب الخمر ليس على عارًا ** إذا لم يشكني فيها رفيقي

وغمدان الذي حدثت عنه ** بنوه ممسكًا في رأس نيق

مصابيح السليط تلوح فيه ** إذا يمسي كتوماضِ البروقِ

فأصبح بعد جدّتهِ رمادًا ** وغيّر حسنه لهب الحريق

واسلم ذو نواس مستميتًا ** وحذّر قومه ضنك المضيق

قال: فأقام أرياط باليمن، وكتب إليه النجاشي: أن أثبت بجندك ومن معك، فأقام حينًا ثم إنّ إبرهة بن الصباح ساخطه في أمر الحبشة حتى انصدعوا صدعين فكانت معه طائفة ومع إبرهة طائفة، ثم تراجفا، فلمّا دنا بعضهم من بعض أرسل إبرهة إلى أرياط: لا تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها بعضًا شيئًا حتى تلقاني، ولكن اخرج إلى فأيّنا قتل صاحبه انضمّ إليه الجند، فأرسل إليه: إنّك قد أنصفت.
وكان أرياط جسيمًا عظيمًا وسيمًا، في يده حربته، وكان إبرهة رجلا قصيرًا حاذرًا لحيمًا، وكان ذا دين في النصرانيّة وخلّف إبرهة فيها غلام يقال له: عتودة، فلمّا دنوا رفع أرياط الحربة فضرب بها رأس إبرهة فوقعت على جبينه فشرمت عينه وجبينه وأنفه وشفته فبذلك سُمّي الأشرم.
وحمل عتودة على أرياط فقتله، فاجتمعت الحبشة لإبرهة وقال عتودة: أنا عتودة من خلفه ارده لا أب ولا أُم بحده، وقال إبرهة: ما كان لك قبله يا عتودة ولا ديته قال: فبلغ النجاشي ما صنع إبرهة فغضب وحلف لا يدع إبرهة حتى يجرُّ ناصيته ويطأ بلاده، وكتب إلى إبرهة: إنّك عدوت على أميري فقتلته بغير أمري.
وكان إبرهة رجلا ماردًا، فلمّا بلغه ما كان من قول النجاشي حلق رأسه وملأ جرابًا من تراب أرضه وكتب إلى النجاشي: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك، اختلفنا في أمرك وكنت أعلم بالحبشة وأسوس لها، وقد كنت أردته أن يعتزل وأكون أنا أسوسه فأبى فقتلته، وقد بلغني الذي حلف عليه الملك، وقد حلقت رأسي فبعثت به إليه، وبعثت إليه بجراب من تراب أرضه؛ ليضعه تحت قدمه ومن يهينه، فلمّا انتهى إليه ذلك رضي عنه فأقرّه على عمله، وكتب إليه أن يثبت بمن معه من الجند.
ثم إن إبرهة بنى كنيسة بصنعاء يقال لها: الفليس، وكتب إلى النجاشي: قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يُبنَ لملك مثلها قط، ولستُ منتهيًا حتى أصرف إليها حجيج العرب. فسمع بذلك رجل من بني مالك بن كنانة فخرج إلى القليس فدخلها ليلا وقعد فيها، فبلغ إبرهة ذلك، ويقال: إنه أتاها ناظرًا إليها فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة، فقال: من اجترأ على؟ فقيل صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت، سمع بالذي قلت فصنع هذا، فحلف إبرهة عند ذلك ليسيرنّ إلى الكعبة حتى يهدمها.
فخرج سائرًا في الحبشة وخرج معه بالفيل، فسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به ورأوا جهاده حقًّا عليهم، فخرج ملك من ملوك حمير يقال له: ذو نفر بمن أطاعه من قومه، فقابله فهزمه وأخذ ذو نفر فأتى به، فقال: أيها الملك لا تقتلني فإنّ استبقائي خير لك من قتلي، فاستبقاه وأوثقه.
وكان إبرهة رجلا حليمًا، ثم خرج سائرًا حتى دنا من بلاد خثعم فخرج نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم شهدان وأهش ومن اجتمع إليه من قبايل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ النفيل، فقال نفيل: أيّها الملك إني دليل بأرض العرب فلا تقتلني وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة، فاستبقاه، وخرج معه يدلّه حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف فقال: أيّها الملك إنّما نحن عبيدك ليس لك عندنا من خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد يعنون اللاّت إنما تريد البيت الذي بمكّة، نحن نبعث من يدلّك عليه، فبعثوا أبا رغال مولى لهم فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال، وهو الذي يرجم قبره.
وبعث إبرهة من المغمس رجلا من الحبس يقال له: الأسود بن مقصود على مقدّمة خيله فجمع إليه أموال الحرم وأصاب لعبد المطّلب مائتي بعير، فقال عبد اللّه بن عمر بن مخزوم:
اللهم اخز الاسود بن مقصود ** الآخذ الهجمة فيها التقليد

بين حراء وبثير فالبيد ** يحبسها وهي أُولات التطريد

فضمها إلى طماطم سود ** قد أجمعوا أو يكون معبود

ويهدموا البيت الحرام المعمود ** والمروتين والمشاعر السود

أضفره يا رب وأنت محمود

ثم إن أبرهة بعث حائلة الحميري إلى أهل مكّة فقال: سل عن شريفها، ثم أبلغه ما أرسلك به إليه، أخبره أني لم آتِ لقتال وإنّما لأهدم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكّة فلقي عبد المطّلب بن هاشم فقال: إنّ الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأتِ لقتال إلاّ أن تقاتلوه، وإنّما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم.
فقال عبد المطّلب: ماله عندنا ومالنا به نزال، سنخلّي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت اللّه الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمسّه فهو بيته وحرمه وإن يخلّ بينه وبين ذلك فواللّه ما لنا به قوّة، قال: فانطلقْ معي إلى الملك، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة له كان عليها وركب معه بعض بنيه حتى قدم العسكر.
وكان ذو نفر صديقًا لعبد المطلب فأتاه فقال: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال: ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يُقتل بكرة وعشية، ولكنّي سأبعث لك إلى أنيس سائس الفيل فإنّه لي صديق فاسأله أن يصنع لك مثل الملك ما استطاع من خير، ويعظّم خطرك ومنزلتك عنده.
قال: فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له: إن هذا سيّد قريش وصاحب عير مكّة، يُطعم الناس في السهل والوحوش وفي رؤوس الجبل، وقد أصاب له الملك مائتي بعير فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه، فإنه صديق لي أحبّ ما يوصل إليه من الخير، فدخل أنيس على إبرهة فقال: أيّها الملك هذا سيّد قريش وصاحب عير مكّة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، يستأذن عليك، وأنا أحب أن تأذن له فيكلّمك، وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالفٌ عليك فأْذن له.
وكان عبد المطّلب جسيمًا وسيمًا عظيمًا، فلمّا رآه إبرهة أعظمه وأكرمه وكره أن يجلس معه على سريره وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه، ثم دعاه فأجلسه معه، ثم قال لترجمانه قل له: حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان ذلك.
فقال عبد المطّلب: حاجتي إلى الملك أن يردّ على مائتي بعير أصابها لي، فقال إبرهة لترجمانه: أعْجَبْتَنِي حين رأيتك، ولقد زهدت فيك.
قال: لِمَ؟ قال: جئتُ إلى بيت هو دينك ودين آبائك وعصمتكم لأهدمه لم تكلّمني فيه، وتكلّمني في مائتي بعير أصبتها؟ قال عبد المطّلب: أنا ربّ هذه الإبل ولهذا البيت ربّ سَيمنَعَهُ.
قال: ما كان ليمنعه منّي، قال: فأنت وذاك. فأمر بإبله فرُدّت عليه.
قال ابن إسحاق: وكان فيما زعم بعض أهل العلم قد ذهب إلى إبرهة بعمر بن ناثة بن عدي بن الويل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد بني كنانة، وخويلد بن وائلة الهذلي وهو يومئذ سيد بني هُذيل، فعرضوا على إبرهة ثلث أموال أهل تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت، فأبى عليه، فلمّا رُدت الإبل على عبد المطّلب خرج فأخبر قريش الخبر، وأخبرهم أن يتفرّقوا في الشعاب، وتحرزوا في رؤوس الجبال تخوّفًا عليهم من معرّة الجيشاذا دخل، ففعلوا وأتى عبد المطّلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول:
ياربّ لا أرجو لهم سواكا ** يا ربّ فامنع منهم حكاكا

لا يغلبنّ صليبهم ** ومحالهم غدوًا محالك

جروا جموع بلادهم ** والفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم ** جهلا وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكعب ** تنا فأمر ما بدالك

ثم ترك عبد المطّلب الحلقة وتوجّه في بعض تلك الوجوه مع قومه، وأصبح إبرهة بالمغمس قد تهيّأ للدخول وعبّأ جيشه وهيّأ فيله وكان اسم الفيل محمود، وكان فيل النجاشي بعثه إلى إبرهة، وكان فيلا لم يُر مثله في الأرض عظمًا وجسمًا وقوّةً.
ويقال: كانت معه اثنا عشر فيلا، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه وقال: ابرك محمود وارجع راشدًا من حيث جئت، فإنك في بلد اللّه الحرام فبرك الفيل فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول على رأسه فأبى، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه ومرافقه فنزعوه ليقوم فأبى، فوجّهوه راجعًا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، فصرفوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم، وخرج الفيل يشتد حتى أُصعد في الجبل.
وأرسل اللّه طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طاير منها ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره أمثال الحمّص والعدس، فلمّا أغشين أرسلها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلاّ هلك.
وليس كلّ القوم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلّهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل اللّه بهم من نقمته:
أين المفر والإله الطالب ** والأشرم المغلوب غير الغالب؟

وقال نفيل أيضًا في ذلك:
ألا حييت عنا ياردّينا ** نعمنا كم مع الإصباح عينا

ردُيّنة لو رأيت ولم تريه ** لدى جنب المحصّب ما رأينا

إذًا لغذرتني وحمدت رأيي ** ولم تأسي على مافات بينا

حمدت اللّه إذ عاينت طيرًا ** وخفت حجارةً تُلقى علينا

فكلّ القوم يسألُ عن نفيل ** كأن على للحبشانِ دينا

ونفيل ينظر إليهم من بعض الجبال وقد صرخ القوم وهاج بعضهم في بعض، وخرجوا يتساقطون بكلّ طريق ويهلكون على كل منهل، وبعث على إبرهة داءً في جسده، فجعل تتساقط أنامله، كلّما سقطت أُنملة اتبعتها مدة من قيح ودم، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك.
وزعم مقاتل بن سليمان أنّ السبب الذي جرّ حديث أصحاب الفيل هو أنّ قبيلة من قريش خرجوا تجّارًا إلى أرض النجاشي، فساروا حتى دنوا من ساحل البحر وفي حقف من أحقافها بِيْعَة النصارى يسمّيها قريش: الهيكل، ويسمّى النجاشي وأهل أرضة: اطاسر حنان، فبرك القوم في سدّها فجمعوا حطبًا ثم أجّجوا نارًا فاشتووا، فلمّا ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف، فعجّت الرياح فاضطرم الهيكل نارًا، فانطلق الصريخ إلى النجاشي فأخبره فاسف عند ذلك غضبًا للبيعة، فبعث إبرهة لهدم الكعبة وما لقيه.
وكان بمكّة يومئذ أبو مسعود الثقفي، وكان مكفوف البصر يصيّف بالطائف ويشتو بمكّة، وكان رجلا نبيهًا نبيلا يستسقم الأمور برأيه، وهو أول راتق وأول فاتق، وكان خليلا لعبد المطّلب، فقال عبد المطلب: يا أبا مسعود ماذا عندك؟ هذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك.
فقال أبو مسعود لعبد المطّلب: اعمد إلى مائة من الإبل فاجعلها حرمًا للّه، وقلّدها نعلا ثم أثبتها في الحرم لعلّ بعض هذه السودان تعقُر منها فيغضب ربُّ هذا البيت فيأخذهم، ففعل ذلك عبد المطّلب، فعمد القوم إلى تلك الإبل فحملوا عليها وعقروا بعضها فجعل عبد المطلب يدعو.
فقال أبو مسعود: قال عبد المطلب: إنّ لهذا البيت لربًّا يمنعه، فقد نزل تبع ملك اليمن بصخر هذا البيت وأراد هدمه، فمنعه اللّه وابتلاه وأظلم عليه ثلاثة أيام، فلمّا رأى ذلك تبّع كساه القباطي البيض وعظّمه ونحر له جزرًا، فانظر نحو البيت.
فنظر عبد المطّلب فقال: أرى طيرًا بيضًا نشأت من شاطئ البحر قال: ارمقها ببصرك أين قرارها؟ قال: أراها قد أزرّت على رؤوسنا.
قال: هل تعرفها؟ قال: واللّه ما أعرفها ما هي نجديّة ولا تهاميّة ولا عربية ولا شامية وإنها لطير بأرضنا غير مؤنسة.
قال: ما قدّها؟ قال: أشباه اليعاسيب في منقارها حصى كأنها حصى الحذق قد أقبلت كاليلل تكسع بعضها بعضًا، أمام كل طير، يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق، فجاءت حتى إذا حاذت بعسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم.
فلمّا توافت الرعال كلها أهالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها، مكتوب في كلّ حجر اسم صاحبه، ثم إنها انصاعت من حيث جاءت، فلمّا أصبحا انحطّا من ذروة الجبل، فمشيا رتوة فلم يؤنسا أحدا ثم دنيا رتوة فلم يسمعا حسًّا فقالا: بات القوم سامدين فاصبحوا نيامًا، فلمّا دنيا من عسكر القوم فإذا هم خامدون.
وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى تقع في دماغه وتخرق الفيل والدّابة ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه، فعمد عبد المطّلب فأخذ فأسًا من فؤوسهم فحفر حتى أعمق في الأرض فملأه من الذهب الأحمر والجوهر الجيّد، وحفر لصاحبه فملأه ثم قال لأبي مسعود: هات خاتمك فاختر، إن شئت أخذت حفرتي وإن شئت أخذت حفرتك وإن شئت فهما لك معًا.
فقال ابن مسعود: اخترتني على نفسك، فقال عبد المطّلب: إني لم آل أن أجعل أجود المتاع في حفرتي فهو لك، وجلس كل واحد منهم على حفرته ونادى عبد المطّلب في الناس فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعًا، وساد عبد المطّلب بذلك قريش، وأعطته المقادة فلم يزل عبد المطّلب وأبو مسعود في أهلهما في غنًى من ذلك المال، ودفع اللّه عن كعبته وقبلته، فسلّط جنودًا لا قبَلَ لهم بها.
وقال الواقدي بأسانيده: وجّه إبرهة أرياط أبا ضخمة في أربعة آلاف إلى اليمن فغلب عليها؛ فأكرم الملوك واستذلّ الفُقراء، فقام رجل من الحبشة يقال له: إبرهة الأشرم أبو يكسوم فدعا إلى طاعته فأجابوه، فقتل أرياط وغلب على اليمن، فرأى الناس يتجهّزون للحجّ فقال: أين يذهب الناس؟ قال: يحجّون بيت اللّه بمكّة.
قال مما هو؟ قال: من حجارة.
قال فما كسوته؟ قال مما يأتي من هنا وهناك.
قال: والمسيح لأبنينّ لكم خيرًا منه فبنى لهم بيتًا عمله بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود، وحلاّه بالذهب والفضة، وحفّه بالجواهر وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة، وجعل له حُجّابًا، وكان يوقد بالمندلي ويلطخ جدره بالمسك فيسودها حتى تغيب الجواهر، وأمر الناس بحجّه، فحجّه كثير من قبائل العرب سنين، ومكث فيه رجال يتعبّدون ويتألّهون ونسكوا له.
وكان نفيل الخثعمي يورّض له ما يكره فأمهل، فلمّا كان ليلة من الليالي لم يَر أحدا يتحرّك، فقام فجاء بعذرة فلطّخ بها جبهته، وجمع جيفًا وألقاها فيه، فأُخبر إبرهة بذلك فغضب غضبًا شديد وقال: إنما فعلت العرب غضبًا لبيتهم، لأنقضنّه حجرًا حجرًا، وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ويسأله أن يبعث إليه بفيله محمود، وكان فيلا لم يُر مثله في الأرض عظمًا وجسمًا وقوةً، فبعث به إليه.
فلمّا قدم عليه الفيل سار إبرهة بالناس ومعه ملك حمير ونفيل بن حبيب الخثعمي، فلمّا دنا من الحرم أمر أصحابه بالغارة على نِعَم الناس، فأصابوا إبلا لعبد المطّلب، وكان نفيل صديقًا لعبد المطّلب فكلّمه في إبله، فكلّم نفيل إبرهة فقال: أيّها الملك قد أتاك سيّد العرب وأفضلهم قدرًا وأقدمهم شرفًا، يحمل على الجياد، ويعطي الأموال، ويُطعم الناس، فأدخله على إبرهة، فقال: حاجتك؟ قال: تردُّ على إبلي. فقال ما أرى ما بلغني عنك إلاّ الغرور، وقد ظننت أن تكلّمني في بيتكم الذي هو شرفكم. فقال عبد المطّلب: اردد على إبلي ودونك البيت فإن له ربًّا سيمنعه.
فأمر بردّ إبله عليه، فلمّا قبضها قلّدها النعال وأشعرها وجعلها هديًا وثبتها في الحرم لكي يصاب منها شيء، فيغضب ربّ الحرم، وأوفى عبد المطّلب على خيل ومعه عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم بن مطعم بن عدي، وأبو مسعود الثقفي، فقال عبد المطّلب:
اللهم إن المرء يمنع رح ** له وحلاله فامنع حلالك

قال: فأقبلت الطير من البحر أبابيل، مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره، وقذفت الحجارة عليهم، لا تصيب شيئًا إلاّ هشمته إلاّ فقط ذلك الموضع، فكان ذلك أوّل ما رؤي من الجدري والحصبة والأشجار المرّة فأهمدتهم الحجارة، وبعث اللّه سيلا عاتيًا فذهب بهم إلى البحر فألقاهم فيه، وولّى إبرهة ومن بقي معه هرابا، فجعل إبرهة يسقط عضوًا عضوًا.
وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم فنجا، وأمّا الفيل الآخر فشجع فحصب، ويقال: كانت اثني عشر فيلا.
قال ابن إسحاق: ولمّا ردّ اللّه الحبشة عن مكّة عظمت العرب قريشًا وقالوا: أهل اللّه، قاتل عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم، وقال عبد اللّه بن عمر بن مخزوم في قصة أصحاب الفيل:
أنت الجليل ربنا لم تدنسِ ** أنت حبست الفيل بالمغمَّس

من بعد ما هم بشر مبلس ** حبسته في هيئة المكركس

وما لهم من فرج ومنفس

والمكركس: المنكوس المطروح.
وقال أبو الصلت بن أُميّة بن مسعود في ذلك أيضًا:
إن آيات ربنا باقياتٌ ** ما يُماري فيهنّ إلاّ الكفورُ

حبس الفيل بالمغمس حتى ** ظلّ يحبو كأنه معقور

حوله من ملوك كندة أبطال ** ملاويث في الحروب صقور

غادروه ثم انذعروا سراعًا ** كلّهم عظم ساقه مكسور

وقال الكلبي ومقاتل: كان صاحب الجيش إبرهة، وكان أبو يكسوم من وزرائه وندمائه، فلمّا أهلكهم اللّه سبحانه بالحجارة لم يفلت منهم إلاّ أبو يكسوم، فسار وطاير يطير فوقه ولم يشعر به حتى دخل على النجاشي فأخبره بما أصابهم، فلمّا استتمّ كلامه رماه الطائر فسقط فمات، فأرى اللّه النجاشي كيف كان هلاك أصحابه.
وقال الآخرون: أبو يكسوم هو إبرهة بن الصباح.
وقال الواقدي: كان إبرهة جدّ النجاشي الذي كان في زمن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم واختلفوا في تاريخ عام الفيل، فقال مقاتل: كان أمر الفيل قبل مولد رسول اللّه عليه السلام بأربعين سنة، وقال الكلبي وعبيد بن عمير: كان قبل مولد النبي عليه السلام بثلاث وعشرين سنة.
وروي أنّه كان في العام الذي ولد فيه رسول اللّه عليه السلام، وعليه أكثر العلماء، يدل عليه ما أخبرنا أبو بكر الخورقي قال: أخبرنا أبو العباس الدعولي قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة، قال: حدّثنا إبراهيم بن المنذر الجراحي قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي ثابت قال: حدّثنا الزبير بن موسى عن أبي الحويرث قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني الليثي: يا قباث، أنت أكبر أم رسول اللّه؟ قال: رسول اللّه أكبر منّي، وأنا أسنّ منه، ولد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفتْ بي أمّي على روث الفيل.
وقالت عائشة: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكّة عميين مقعدين يستطعمان.
التفسير:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} قال مقاتل: كان معهم فيل واحد، وقال الضّحاك: كانت ثمانية، وإنّما وجد على هذا التأويل لوفاق رؤوس الآي، أو يقال: نسبهم إلى الفيل الأعظم واسمه محمود.
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} عما أرادوا من تخريب الكعبة: وقيل: في بطلان وأباطيل، وقال مقاتل: في خسار.
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ} من البحر {طَيْرًا أَبَابِيلَ} كثيرة متفرقة، يتبع بعضها بعضًا.
قال عبد الرحمن بن ايزي: أقاطيع كالابل المقبلة.
قال الأعشى:
طريق وجبار رواء أصوله ** عليه أبابيل من الطير تنعب

وقال أمرؤ القيس:
تراهم إلى الداعي سراعًا كأنهم ** أبابيل طير تحت دجن مسخن

وقال آخر:
كادت تُهدُّ من الأصوات راحلتي ** أنْ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

واختلفوا في واحدها، فقال الفرّاء: لا واحد لها مثل الشماطيط والعباديد والشعارير، كل هذا لا يفرد له واجد، قال: وزعم أبو الرواسي وكان ثقة مأمونًا أنه سمع واحدها إبالة ولقد سمعتُ من العرب من يقول: ضغث على إبالة يُريدون خصب على خصب.
قال: ولو قال قائلٌ: واحدها إبالة كان صوابًا مثل دينار ودنانير، ويقال: للفضلة التي تكون على حمل الحمار أو علف البعير إبالة، وقال الكسائي: كنت أسمع النحويين يقولون: واحدها أبوَّل مثل عجوَّل وعجاجيل. وحكى محمد بن جرير عن بعض النحويين أن واحدها أبيل، يُقال: جاءت الخيلُ أبابيل من هاهنا وههنا.
قال ابن عباس: لها خراطيم كخراطيم الطير وأكفٌ كأكفّ الكلاب.
عكرمة: لها رؤوس كرؤس السباع لم تُر قبل ذلك ولا بعده.
ربيع: لها أنياب كأنياب السباع، وقالت عائشة: أشبه شيء بالخطاطيف.
سعيد بن جبير: طيرٌ خضر لها مناقير صفر، قال أبو الجوزاء: أنشأها اللّه سبحانه في الهواء في ذلك الوقت.
{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ} قراءة العامة بالتاء للطير.
وقرأ طلحة وأشهب العقيلي يرميهم بالياء، وهو اختيار أبي حنيفة، يعنون اللّه سبحانه، كقوله: {ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] ويجوز أن يكون راجعًا إلى الطير لخلوّها من علامات التأنيث.
{مِّن سِجِّيلٍ} قال ابن مسعود: صاحب الطير وترميهم بالحجارة، وبعث اللّه سبحانه ريحًا فضربت الحجارة فزادتها شدّة، فما وقع منها حجر على رجل إلاّ خرج من الجانب الآخر، وإنْ وقع على رأسه خرج من دبره.
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} كزرع أكلته الدواب فراثته فيبس وتفرّقت أجزاؤه، شبّه تقطّع أوصالهم يفرق أجزاء الروث.
قال مجاهد: العصف: ورق الحنطة. قتادة: هو التبن، قال الحسن: كنا ونحن غلمان بالمدينة نأكل الشعير إذا قصّب وكان يُسمّى العصف. سعيد بن جبير: هو الشعير النابت الذي يؤكل ورقه.
الفرّاء: أطراف الزرع قبل أن يُسنبل ويُبتك. عكرمة: كالجبل إذا أُكل فصار أجوف. ابن عباس: هو القشر الخارج الذي يكون على حبّ الحنطة كهيئة الغلاف له.
المؤرّخ: هو ما يقصف من الزرع فسقطت أطرافه، وقال ابن السكّيت: هو العصف والعصيفة والجل، وقيل: كزرع قد أكل حبّه وبقي تبنه، وقال الضحّاك: كطعام مطعوم. اهـ.